لا شيء أثقل على النفس البشرية من النصيحة وخاصة عند من توجه إليه، فهي ثقيلة عند توجيهها وأثقل عند قبولها، ويزداد ثقلها عندما يتسع صدر المنصوح لها، ويكون العجب حين نجد نفوسا تبحث عنها وتطلبها وتسعد بها بل وتقول: (لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نقبلها).
ولا شيء يسعد النفوس مثل الثناء، تفرح به نسبة عالية جدا من النفوس مهما كبرت وعلت وارتقت، وربما تطلبه وتستحث الناس عليه، وقد تحزن إذا لم يتحقق وفق ما أملت ورجت، ومن النفوس من تطلب سماعه- ولو كان باطلا- فتستحل ما يمتلك غيرها وتدعيه لنفسها طلبا للثناء.
وتختلف النصيحة في تقبلها عن الثناء الذي يتقبله معظم الناس بسرعة ويفرحون به، إذ أن الثناء لا يأتي غالبا إلا بعد أداء عمل جيد أو يتصور أنه جيد، في حين يكمن ثقل النصيحة على النفوس في كونها لا تأتي غالبا إلا بعد تقصير أو تصور تقصير، والنفوس- غالبا- ما تحب من يثني عليها ويمتدح أفعالها ومواقفها وتكره من يواجهها بخطأ أو تقصير.
ولا أعلم أحدا يشترط شروطا لقبول الثناء، فيقبله الناس من الجميع، الأعلى منهم والأدنى، ويقبلونه في أي موضع وبأية كيفية، لكن الشروط الشديدة لا توضع دوما إلا أمام النصيحة، فقد يقبلها بعضهم ممن يراه أعلى منه مكانة لا ممن هو أدنى- وذلك في تصوره فالله وحده اعلم بمنازل الناس عنده- ولا يقبلها إذا كانت في الملأ علانية ويعتبرها فضيحة لا نصيحة- وقد يكون معه حق في ذلك- وربما توضع شروط أخرى كثيرة معرقلة لها.
وهكذا فالثناء مستساغ محبب يؤخذ دون قيود ولا شروط من أي أحد وربما يستحب صدروه علانية، فان حاول نفس الأشخاص تقديم النصيحة ظهرت القيود والشروط والعقبات التي دائما ما تضعها النفس حتى ترد النصيحة على قائلها، ولكي تلتمس لذاتها العذر والمبرر في رفضها، ولتتهم حينها باذل النصيحة بإساءة استخدامها وسوء استغلالها، لتنتصر النفس مرة أخرى، ولا أعقد لذلك سببا سوى رفضها للنصيحة واستثقالها من الأساس، وصدق الله سبحانه في كتابه: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}.
إن الثناء أمر عارض لا يلزم الإنسان قوله ولا سماعه، وينبغي أن يظل دوما أمرا عارضا، له حاجة يقدر بقدرها، فكثيرُه مضر أو مهلك، أما النصيحة الصادقة في موضعها فهي ضرورة تقيم قواعد الدين وتحفظ أساسه المتين، فقد كان النصح عمل أنبياء الله الكرام {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وأخبر عنه نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «الدين النصيحة».
وقد يكون الثناء في وقته ومكانه وقدره حاجة لرفع المعنويات وتثبيت الطاعات في أنفس أصحابها، يفعله المربي كوسيلة تربوية عندما يحتاجها فتكون أحيانا للحث والتوجيه وأحيانا للعلاج والدواء، وقليل من يجيد استخدام هذا الأسلوب لدقته، وأفضل من علمنا كيف نقوم به هو رسولنا صلى الله عليه وسلم: «نعم العبد عبد الله لو كان يقوم الليل»، «أَرْحَمُ هَذِهِ الأُمَّةِ بِهَا أَبُو بَكْرٍ، وَأَقْوَاهُمْ فِي دِينِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَقْضَاهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ وِعَاءٌ مِنَ الْعِلْمِ، وَسَلْمَانُ عَالِمٌ لا يُدْرَكُ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَعْلَمُ النَّاسِ بِحَلالِ اللَّهِ وَحَرَامِهِ، وَمَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ وَلا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ مِنْ ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ» .
وليس كل ثناء محمودا وليست كل نصيحة متهمة ومتجنية، فقد ينتفع المرء- وكثيرا ما نرى ذلك- بنصيحة تألم منها مستمعها حين قدمت له ولكن كان فيها نفعه في دنياه وآخرته.
وتتباين مكانة ناصحك ومادحك منك بتباين الأثر النفسي عليك بين النصيحة والثناء، فناصحك يعلم سلفا انه سيغضبك عند قوله لك ما لا تهواه، أما مادحك فيريد التقرب منك بمدحك بقوله الذي ترضاه نفسك وتحبه، ولهذا فمعظم الناس يقرب مادحه ويحب حديثه ويبعد ناصحه ويتأفف من سماع كلماته، وقليل من الناس من يستطيع أن يكسر ذلك الحاجز فيجعل مادحه وناصحه عنده سواء، بينما يندر من يحمل نفسا عالية تحب ناصحها وتقربه أكثر من مادحها التي تبعده وتحثو في وجهه التراب.
إن ميزان الاعتدال في كل أمر أنه لا إفراط ولا تفريط، فلا إسراف ولا تقطير فهو الحسنة بين السيئتين، فالثناء الزائد عن الحد مهلك لقلب القائل والسامع، وكذلك أيضا قد تكون النصيحة إذا كانت في غير وقتها أو موضعها مؤلمة وشديدة وربما أضرت حيث كان يرجى منها النفع.
الكاتب: يحيى البوليني.
المصدر: موقع المسلم.